My poems , short stories and thoughts

Sunday, September 6, 2009

الجمجمة


كان يتحتم على كل واحدٍ منا أن يحصل على هيكلٍ عظمي في السنة الأولى في كلية الطب . و من حسن حظي أني حصلت عليه دون مقابل من ابنة عمتي و التي حصلت عليه من ابنة خالتي . أما إذا لم يكن الطب متوارثا في عائلتك , فهناك طريقتان لشراء هيكل عظمي ؛ الأولى من عامل المشرحة في الكلية , و الثانية من الحانوتي في المقابر . معظم زملائي حصلوا على هياكلهم من عامل المشرحة .. ببساطة لأنها الطريقة الشرعية الوحيدة . السر الذي لا يعلمه أحد ، أن الهيكل خاصتي .. حصل عليه أقربائي من المقابر !

*****

الهياكل عامة ً ثابتة السعر .. الجمجمة ثمنها 100 جنيها ، و باقي العظام ثمنها 150 جنيه . و السبب في ذلك أن الجسم تتكرر فيه معظم العظام يمينا و يسارا عدا الجمجمة . فأنت عندما تشتري الهيكل تحصل على العظام اليمنى أو اليسرى فقط , فليس من داع ٍ لتحصل على كلتيهما . و تعتمد تجارة الهياكل العظمية في الأساس على مَنْ لا أهل لهم ؛ سواءً كان طفلا من أطفال الشوارع , أو رجلا محكوماً عليه باللإعدام تخلى عنه أقاربه ، أو امرأة ً عجوز تقتات من الشحاذة ماتت مكانها ، أو مجهول صدمته سيارة و لم يتعرف عليه أحد .. إلخ
كل هؤلاء يواجهون نفس المصير ؛ تأتي أجسادهم إلى المشرحة لتحل محل الأجساد القديمة التي اهترأت من كثرة الدارسين و الممتحنين .. و (الفورمالين) المنقوعة فيه !
أما الأجساد القديمة , فيقوم عمال المشرحة (بتشفيتها) من اللحم المتبقي .. ثم يقومون بدفن اللحم أو حرقه . أما العظام فيتم أولاً تسخينها في الماء ، لكن ليس لدرجة الغليان حتى لا تصيبها الهشاشة , ثم يتم غسلها جيدا بالماء , و تجفف تحت أشعة الشمس , و الهيكل الجيد هو الذي يتم دهانه بالورنيش حتى لا تتسرب منه رائحة الموت الكريهة .

*****

في المشرحة .. تعرفت على أعز أصدقائي .. هيثم . كان هيثم (ابن ناس) و الوصف الأدق أنه كان من (ولاد الذوات) . كل يوم يتجمع مع (شلته) من طلبة الـ (آي جي) في أحد أركان المشرحة يتضاحكون و يتحدثون بالإنجليزية المرصعة بالعربية . كانوا كمخلوقات أتت من كوكبٍ آخر ، و كان لابد من حلقة اتصال تربطهم بكوكبنا ، و كنت أنا هذه الحلقة .

*****

في السنة الأولى .. و خصوصا داخل المشرحة ، هناك أمرٌ واحد يشغل الجميع و هو كيف تقنع الآخرين بقوة قلبك ، و عدم خوفك من جو الجثث و العظام المرعب , و رائحة (الفورمالين) المقززة . و كل واحد له طريقته في إثبات ذلك .
هناك زميلة لنا كانت لا يحلو لها تناول إفطارها إلا بجانب الجثة . كل يوم ، و بعد انتهاء الدرس ، تـُخرج (الساندوتش) من حقيبتها ، و تجلس إلى جوار الجسد الممدد على الطاولة ، و تنهمك في الأكل .
أما أنا فكنت أستعرض جرأتي بطريقة مختلفة . كنت أمسك الجثة بكفي مباشرة ً بدون قفاز . كان أمرا مقززا في البداية ، خاصة و أن الجثة كانت (بـِتنِزْ) فورمالين كلما أمسكتها . و الفورمالين لوحده كان حكاية . له رائحة نفاذة للغاية تنشع في النافوخ و تدمع لها العيون ، و قد تجلب لك الرغبة في التقيؤ . لكن في نفس الوقت .. فهو يحمي الجثث من التعفن ، كما أنه يحول لونها إلى البني الغامق ، و يجعلها تبدو كدمية من الصلصال لا تثير الرعب ، بل قد تثير الشفقة أحيانا !
أما هيثم فقد كان يبذل مجهودا فوق العادة لكي يثبت لنا جرأته ، و أنه ليس شابا (فرفور) خفيف القلب . و إذا أردنا تسمية طريقته ، فالاسم الأنسب لها هو " طريقة الجمجمة " .

*****

بالرغم من أننا لا ندرس الجمجمة إلا في السنة الثانية , إلا أن هيثم كان يحضرها معه في حقيبة الظهر كل يوم . و كان يستخدمها استخداماتٍ كثيرة ، فتارة ً يتبادل هو و أعضاء (شلته) الإمضاءات و الإهداءات على قبب الجماجم ، و تارة ً أخرى يقوم برسم جماجم صغيرة أو قلوب عليها . و في يوم .. دخل علينا و قد كتب على جبهة الجمجمة نكتة (أبيحة) بالإنجليزية !
و وصل الأمر معه لحد الهوس ، ففي منزله .. كان يستخدم الجمجمة كـ (أباجورة) في المساء . يطفئ الأنوار , و يشعل شمعة صغيرة داخل الجمجمة ، فتخرج الإضاءة من فتحات العينين و الأنف و الفم . و في وقت المذاكرة .. كان يستخدمها كتمثال يزين مكتبه .
و في واحدة من زياراتي المتكررة لشقتهم بمصر الجديدة للمذاكرة ، نبهته إلى أنه لا داعي على الأقل لتلك الاستخدامات المنزلية للجمجمة ، فلا أحد يراها غيري ، لكنه لم يعر كلامي أي اهتمام .. يومها ، بدأت أشعر بالقلق عليه من تصرفاته .

*****

اعتاد كل منا أن يطلق اسما ًعلى هيكله . سميت هيكلي (لطفي) رغم أنه كان لأنثىً عجوز ، بينما سمّى هيثم هيكله (شاكيرا) رغم أنه كان لفحلٍ ضخم !
عموما .. كانت أحاديثنا تتضمن تلك الأسماء الطريفة : لطفي و شاكيرا و بندق (هيكل زميلتنا بتاعة الساندوتش) بدلا من لفظ الهيكل أو الجمجمة الكئيب .
و في أحد الأيام .. كنت في غرفة هيثم عندما لاحظت شاكيرا على مكتبه و قد أضاف اسمها على الجبهة تحت النكتة . يومها كنا وحدنا في الشقة ، و كان والداه خارج المدينة . و في وقت متأخر من الليل ، أيقظت هيثم الذي نام على مكتبه و هو يذاكر :

ــ هيثم .. هيثم .. اصحى .. النور باين عليه انقطع !
ــ إزاي بس دي عمرها ما حصلت .
ــ و آديها حصلت ياخويا .. هنعمل ايه دلوقتي ؟
ــ هنكمل نوم .
ــ بس أنا ما بعرفش أنام و هي الدنيا ضلمة كحل كده .
ــ طب تعالى معايا المطبخ نجيب كبريت نولع بيه الشمعة اللي جوه شاكيرا .

ذهبنا إلى المطبخ سويا ، و تلمسنا طريقنا على أضواء الموبايلات . لكن و في طريق العودة .. تهنا عن بعضنا . ناديت على هيثم ، لكنه أجابني بصرخة مروعة .. و عند مدخل الغرفة كان المشهد كالآتي : هيثم ممدد على الأرض فاقدا الوعي .. بينما تتراقص شاكيرا المشتعلة في سماء الغرفة جيئة و ذهابا .

*****

في اليوم التالي .. في الكلية ، جاء هيثم بدون شاكيرا لأول مرة . تجنب كلانا الحديث فيما حدث ليلة البارحة . و من يومها لم يحضرها معه مرة أخرى إلا في السنة الثانية . كانت هذه المرة قد نظفت من كل الكتابات و الرسومات . و اليوم .. و بعد سنوات من هذه الحادثة .. أشعر بالسعادة كلما تذكرت هيثم ، و تذكرت (مقلبي) الذي جعل منه طبيبا ناجحا .

Sunday, August 30, 2009

رواية : القصر العالي


الحلقة الخامسة : رحلة عبر الباب الخلفي

(5)

لازالت الأصوات الغريبة يتردد صداها في أرجاء القصر كل ليلة . لم يشأ الكاتب أن يصدق أساطير الأهالي . في الحقيقة .. لم يكن لديه خيار سوى المكوث في القصر بعدما استولى زوج أمه على ثروته ، و لم يترك له سوى صندوق خشبي صغير يحوي بعض الخطابات التي تخص والدته الراحلة . شعر بالامتنان عندما تذكر ذلك الصندوق ، فلولاه لما وجد العقد الذي تبيعه فيه والدته هذا القصر .

بعد مرور خمسة أيام على قدومه لهذا المكان , قرر أن يضع حدا ً للحيرة التي ظلت تتنازعه بين التصديق و التكذيب . انتظر انقطاع التيار الكهربي عند انتصاف الليل ( و الذي تكرر خلال الأيام الخمسة الماضية ) .. و ارتدى معطفا ثقيلا ليتقي برودة الليل هنا عند قمة الجبل ، و حمل مصباحا ً، ثم انطلق في رحلته بحثا ًعن لوحة التحكم في الكهرباء ، علـّه يجد من يتلاعب بها .

خرج إلى حديقة القصر الميتة ، نظر نحوها في يأس ٍو فكر : " حتى لو زرعت يوما ما هذه الحديقة ، فستنبت أزهارا ًميتة " . قرر بدء البحث من الباب الخلفي للقصر ، فهو لم يقرب ناحيته من قبل . لم يكن هذا الباب شامخا كالباب الأمامي . كان صغيرا ًو عاديا ً.. خمن الكاتب : " ربما استـُخدم هذا الباب للخدم في أزمنة القصر الغابرة " ، لكن ما لم يعلمه الكاتب أنه عبر هذا الباب، و قبل أربعين عاما ، فر أفراد أسرة الباشا هربا ًمن حشود العمال الغاضبة . و عبر هذا الباب أيضا عاد الباشا أدراجه لينقذ ابنته الصغيرة من النيران ، لكنه لم يخرج منه منذ ذلك الحين ..

فتح الباب ، و لوح بضوء بطاريته لاستكشاف المكان . لاحظ وجود سُلـَّمين ، أحدهما للصعود و الآخر للنزول . قرر استخدام الأخير . نزل درجاته المتهالكة في حذر ، ليجد نفسه أمام باب ٍخشبي ٍآخر . فكر للحظات ، ثم فتح الباب متخوفا ًمما قد يجده . للوهلة الأولى ، وجد غرفة خالية . لكن بعد تمعن ٍو تدقيق ، لاحظ مولدا للكهرباء يقبع في أحد أركان الغرفة . رغم طرازه القديم ، كان من الواضح أنه استـُخدم حديثا . كانت جميع الأسلاك الخارجة منه تخترق الحائط الجانبي إلى غرفة مجاورة . و بينما كان الكاتب يفكر في كيفية الدخول لتلك الغرفة ، سمع وقع أقدام تصعد السلم الآخرفي الخارج . خرج مسرعا ًو صعد السلم ، ليجد الباب في نهايته مفتوحا ًو قد كان مغلقا ًمن قبل . عَبَرَ الباب ، فوجد نفسه في البهو الرئيسي للقصر . تنهد في يأس .. فكيف سيعثر على طريدته في بهو مظلم بهذا الاتساع ! .. و بينما هو على هذه الحال .. فوجئ بعينين حمراوين تلمعان في الظلام خلف البار جهة اليمين ..

Saturday, August 22, 2009

المرآة

This picture is taken by stealthygirl ©2008-2009 - source : deviantart

في المستشفى :
يطلب الطبيب من الزوجة الحديث معها خارج الغرفة . " سيدتي .. يؤسفني أن أخبرك أن الحالة الصحية لزوجك لن تمكنه من العيش لأكثر من عام ، فقلبه لن ... " , تبكي الزوجة بكاءً مكتوما ً. يربت الطبيب على كتفها مواسيا ً ، و يتركها مكتفيا ًبما أخبرها به . لا يكاد الطبيب يبتعد عدة خطوات ، حتى يعود أدراجه إليها ثانية .
-- أعرف صديقا ًلي .. هو طبيب و عالم .. يجري تجربة ًهامة .. و أعتقد أن زوجك يملك الوقت الكافي للاستفادة منها .
-- تجربة ! .. ما هي ؟
-- أعتقد أن الحديث عنها في وجود صديقي سيكون أفضل .
تشكره الزوجة على تجديد أملها . تدخل على زوجها ، فيستشف من حمرة وجهها ما أخبرها به الطبيب عن سوء حالته . تدرك الزوجة ذلك ، فتدنو منه لتجدد لديه الأمل .


في منزل الدكتور(ع) :
تسرح الزوجة و هي تتأمل شهادات الثناء و التقدير المؤطرة التي تملأ الحائط الكائن فوق المدفأة في الواجهة . يلاحظها الطبيب المعالج فيهمس لها : " اطمئني يا سيدتي .. فصديقي رائد في مجاله ، و لولا ثقتي به ، لما كنا هنا الآن " . توميء له الزوجة في توتر . يبدأ الدكتور(ع) كلامه بوجهٍ بشوش : " لقد تقدم الطب في السنوات الاخيرة خطواتٍ عديدة ، تفوق ما تنقله لكم قنوات التلفزة و مواقع الانترنت ، و صديقي الدكتور(س) يعلم ذلك جيدا ً " . يوميء الدكتور(س) موافقا ًعلى كلامه . يكمل : " يستطيع الأطباء في زمننا هذا استبدال قلبك بآخر من أحد المتبرعين ، لكن عليك أولا ً الانتظار لشهور ٍعديدة في قائمة المستقبلين للأعضاء ، و بعدها ربما يرفض جهازك المناعي العضو الجديد ، و حتى لو تقبـّله .. فستعيش على الأكثر عاما ًواحدا ًفقط ، تقضيه في السرير و تحت كم مهول من جرعات الأدوية المثبطة للمناعة والأدوية المنشطة لعضلة القلب " . يزداد توتر الزوجة و تنظر لزوجها متسائلة و الذي يتساءل بدوره : " و ماذا تقترح علينا يا دكتور ؟ " . يعتدل الدكتور(ع) في كرسيه ، و تتحول ملامح وجهه البشوش إلى الجدية : " ما سأقوله الآن هو أمرٌ بالغ السرية .. و لولا مكانة الدكتور(س) عندي لما قمت بهذه المجازفة ..


في قاعدة سرية بالصحراء :
يهبط الزوج و الزوجة من الطائرة المروحية يتقدمهم الدكتور(ع) . و بعد مرورهم عبر عدة أبواب مغلقة بأكواد سرية يضغطها الطبيب بسلاسة ، يجدون طبيبا ًشابا ًفي استقبالهم بوجهٍ بشوش : " مرحبا دكتور(ع) ، لقد أخبرنا قائد المروحية أنكم على وشك الوصول ، و قد قمنا بكافة الاستعدادات اللازمة " . " حسنا ًدكتور(د) " و يتوجه بحديثه نحو الزوجين شارحا ً : " سيأخذكم الدكتور(د) في جولة تعريفية موضحا ًبالتفصيل ما أوجزته لكم البارحة " . يذهب الزوجان مع الدكتور(د) إلى قاعة تشبه قاعات الدرس ، يسألهم الجلوس و يقف جوار جهاز (بروجيكتور) تسقط الصورة المنبعثة منه على شاشة عملاقة .

" سيدتي .. سيدي .. سأشرح لكما الآن خطوات عملية الاستنساخ التي سنقوم بها .. أعرف أن ما سأقوله كلام علمي بحت ، لكني سأحاول تبسيطه قدر الإمكان في الخطوات التالية :
1 - الحصول على بويضة من إحدى المتبرعات ، و قد حصلنا عليها بالفعل
2 - تفريغ هذه البويضة من محتوياتها .
3 - أخذ بعض الخلايا من بشرتك سيدي ، و هي عملية بسيطة و غير مؤلمة .
4 - حقن خلية واحدة من خلايا البشرة في البويضة المفرغة .
5 - تعريض البويضة لعدة صدمات كهربية لتحفيزها على الانقسام ، و نحن بذلك نخدعها و نحملها على الاعتقاد أن ما تم حقنها به هو حيوان منوي ذكري . بعدها سننتظر ليومين حتى يتم الانقسام إلى اثنين و أربعة و ثمانية خلايا جنينية .
6 – الخطوة الأخيرة و فيها يكمن الجديد في تجربتنا . ففي الماضي القريب ، كنا نزرع هذه الخلايا الجنينية في رحم امرأة ، بعدها تسير عملية الاستنساخ كأي عملية حمل و ولادة طبيعية ، لكن كما تعرفان ، بهذه الطريقة سنحتاج إلى عدة سنوات حتى نتمكن من الحصول على حجم القلب المناسب للزرع . ما سنقوم به هو تحفيز نمو الجنين خارج الرحم ، و خلال عدة شهور سيكون الجسد المستنسخ قد مر بمراحل الطفولة و المراهقة و الشباب ، بعدها سيكون جاهزا لاستخلاص قلبه و زرعه لديك " .
كانت الزوجة خلال المحاضرة قد تاهت بين التفاصيل المعقدة ، بينما كان الزوج يفكر في نسب نجاح هذه التجربة من الأساس ..


خارج غرفة العناية الفائقة :
يقف الزوج ممسكا ًبيد زوجته خلف الحائط الزجاجي للغرفة .. يتابعان في ذهول الجنين الذي بدأت تتضح معالمه . وقف الدكتور(ع) إلى جانبهما و قال في سرور : " كما تريان لقد نجحنا في جميع الخطوات التقليدية ، كل ما علينا فعله الآن هو التحلي بالصبر حتى تنتهي المرحلة الأخيرة ، و يكتمل نمو هذا الجسد " ، تتساءل الزوجة : " و كم سننتظر حتى يحدث ذلك ؟ " ، يرد الدكتور : " على أقل تقدير عشرة أشهر ، قد تبدو هذه المدة طويلة بعض الشيء ، لكن إذا قمنا بتسريع معدل النمو أكثر من ذلك ، قد تنتج تشوهات و عيوب جسدية بالغة ، و ربما تطال القلب الذي هو مرادنا " .


في منزل الزوجين :
بعد مرور سبعة أشهر منذ بدء عملية الاستنساخ . الزوج يرقد في الفراش و قد ساءت حالته للغاية . تدخل عليه الزوجة قادمة ً للتو من القاعدة السرية . يسألها زوجها :
-- ها .. ما الأخبار ؟
-- لقد وصل جسديا ًلمرحلة المراهقة .. يطلقون عليه هناك اسم (الجسد بيتا) .. أراه اسما ًسخيفا ً.. لكنْ ما يهمني هو أن يستمر نجاح التجربة حتى النهاية .
-- ماذا تقصدين بأنه " وصل جسديا ً لمرحلة المراهقة " ؟
-- أقصد أن جسده جسد صبي في الثامنة عشرة ، لكن عقله .. عقل طفل ٍ في السنة الأولى من عمره . لم يزل يرمقني بتلك النظرة البلهاء كلما لمحني أراقبه من خلف الزجاج أو أتحدث مع الدكتور(ع) .
-- و ما تفسير الدكتور(ع) لذلك ؟
-- يقول .. إن ذلك كان شيئا ًمتوقعا ً، فالعقاقير التي يحقنونه بها ليلَ نهار قادرة فقط على تحفيز نمو جسده ، أما المخ فيحتاج إلى أكثر من ذلك .. يحتاج إلى تجارب حياتية و احتكاك بالناس و بالمؤثرات الخارجية . و هو لا يبالي بذلك كثيرا ً، فعلى حسب قوله .. كما كانت البويضة المفرغة وعاءً له عند بداية تكوينه .. فـ(الجسد بيتا) وعاء للقلب المراد حتى اكتمال تكوينه .
-- لا أدري يا زوجتي العزيزة .. لكني أشعر برغبةٍ ملحة في رؤيته .. أعلم أن الطبيب منعني من مغادرة الفراش .. لكني أجد هذه الرغبة تلازمني طوال الوقت .


خارج غرفة العناية الفائقة :
يقف الرجل خلف الحاجز الزجاجي يراقب (الجسد بيتا) جالسا على الأرض يلهو ببعض الألعاب . يلمحه (الجسد بيتا) ، فينهض و يتجه نحوه . يقف الاثنان وجها ً لوجه ، لا يفصل بينهما سوى لوح الزجاج و نظرات الذهول . كان الرجل كمن ينظر لصورته في المرآة ! يضحك (الجسد بيتا) ضحكة طفولية تـُخرج الرجل من ذهوله , و يبسط كفه على الزجاج محاولا ً ملامسة شبيهه . يخشى الرجل من التعلق به ، فينصرف و يتركه لاصقا ً وجهه و ذراعيه على الزجاج محاولا ً اختراقه . يكتشف (الجسد بيتا) عجزه عن اختراق الزجاج .. فينخرط في البكاء .


في منزل الزوجين :
تصيح الزوجة في وجه زوجها : ماذا تعني بهذا الكلام .. هل جننت !
-- الجنون هو أن نرتكب جريمة شنيعة كهذه .
-- و أين كان كلامك هذا منذ البداية .. الآن فقط تدرك ما نفعله .. بعد مرور عشرة أشهر كاملة .
-- ألم تنظري إلى البراءة الكامنة في عينيه .. ألم تشاهدي ضحكته الطفولية التي يستقبلنا بها كلما رآنا .
-- نعم .. نعم ، رأيت ضحكته البلهاء ألف مرة طوال عشرة أشهر كاملة من الذهاب و الإياب .
-- هل زالت المحبة و الرحمة من قلبك .. أنا لا أصدق أنك نفس المرأة الحنون التي تزوجتها .
-- إن كنت تعتبر خوفي على حياتك , و حبي الأعمى لك قسوة ، فأنا أعشق تلك القسوة .
-- يا عزيزتي .. الامور لا توزن هكذا ، فمهما كان هذا الجسد ، هو في النهاية بشر ، و ليس أي بشر ، بل بمثابة الابن أو الأخ لي .
-- ها أنت ذا تسئ وزن الأمور .. إياك أن تسمه ابنك .. فبطني لم تحمل هذا المخلوق الغريب ، كما أنك تعلم جيدا أنه ليس أخا ً لك . إنه مجرد وعاء يحفظ القلب الذي تريده .. مجرد خلية من جسدك كآلاف الخلايا التي تذبل و تموت كل يوم دون أن تشعر بها .
-- و هل في اعتقادك إن ماتت هذه الخلية .. أني لن أشعر بها ؟


في القاعدة السرية :
طاقم التمريض يحاول السيطرة على (الجسد بيتا) الذي دخل في حالة هياج خلال نقله من غرفة العناية الفائقة إلى غرفة العمليات ، كأنه على دراية بالمصير الذي ينتظره . في الحقيقة .. هياجه كان بسبب مغادرته للغرفة التي كانت له بمثابة الرحم .. الأم .. الوطن طوال فترة حياته القصيرة . كان ذلك تفسير الدكتور(ع) الذي لم يتأثر بدموع الطفل/ الرجل . كل ما كان يشغله هو استكمال تجربته حتى النهاية . في هذه الأثناء ، كان الزوج مستلق ٍ على طاولة العمليات ، مستسلما ً تحت ضغوط زوجته و الدكتور(ع) . كان لا يزال رافضا لما يقومون به ، لكنه لم يستطع مقاومة دموع زوجته و توسلاتها في المرة الأخيرة التي ناقشا فيها هذا الأمر .

استطاع الفريق الطبي أخيرا السيطرة على (الجسد بيتا) بعد حقنه بالمهدئات . أدخلوه غرفة العمليات ، و وضعوه على طاولة عمليات ثانية في الجهة الأخرى من الغرفة . اقترب طبيب التخدير من الزوج ليشرح له ما سيحدث : " سيقوم الفريق الطبي الأول باستخراج القلب من (الجسد بيتا) ، في هذه الأثناء سيكون الفريق الثاني قد بدأ في شق صدرك استعدادا ً لاستقبال القلب الجديد " . قالها هكذا ببساطة ، و كأن ما سيحدث في اللحظات المقبلة ليس بجريمة . هكذا فكر الزوج و هو يتهاوى تحت سطوة المخدر ، بينما كان (المونيتور) في الجهة الأخرى من الغرفة يصفر بوحشية معلنا ًوفاة (الجسد بيتا) بعد انتزاع قلبه .

استمرت عملية زرع القلب الجديد ساعاتٍ و ساعات . و عندما انتهى الأطباء من الزرع .. قال قائد الفريق بفخر : " و الآن أيها السادة .. يفصلنا عن نجاح التجربة لحظات في انتظار أن ينبض القلب الجديد بالحياة " ، لكن يطول انتظارهم لما يقارب الساعة ، قاموا خلالها بالتدليك اليدوي للقلب ، و قاموا بصدمه كهربيا ًبجهاز الصدمات ، بينما استمر (المونيتور) في الصفير معلنا ً لهم رفضه للجريمة .

Thursday, August 20, 2009

عازف الألحان

Flautist by Jaime Oates

من ألف عام
و أنا شريد
في بحر آلامي وحيد

*

من ألف عام
و أنا حُطام
حزن ٌ تناثر بين طيات الزمان

*

أنا ْ شاعر ٌ
فيْ اللامكان
أنا ْ عاشق ٌ حتى التمام
أنا ْ عازف ُ الألحان
أعزف قصتي بين الدروب
أروي أساطير حبي الدؤوب
أساطيرَ قلب ٍ ملئ ٍ بالندوب
لأنه قلب المشوَّه ..

*

Wednesday, August 19, 2009

رواية : القصر العالي

(This picture is taken by Ewciak & Leto - Poland - source : Flicker)

الحلقة الرابعة : الثوار

(4)

قبل أربعين عاما ً
15 أغسطس 1951

المئات من عمال محاجر الجير يحتشدون عند سفح الجبل , و قد اشتعل الغضب في نفوسهم كما الشمس المشتعلة فوق رؤوسهم . وجوههم السمراء التي لوحتها الشمس , و أرجلهم الحافية , و أسمالهم البالية شهودٌ على الأيام المزرية التي عاشوها .

ظلت الحشود الغاضبة تتزايد طيلة فترة الظهيرة , حتى إذا ما استوت الشمس في كبد السماء ، كانت الحشود قد بدأت تزحف نحو قمة الجبل , حيث يتربع القصر العالي .

أطاح العمال بالسور الحديدي الذي يحيط حديقة القصر . تمزقت أزهار الحديقة تحت أقدامهم ، فكانت أولى ضحايا الهجوم . حاولوا عبثا ً اقتحام القصر لكن الباب الأمامي حال دون ذلك . أسقط العمال شجرة ليمون ضخمة ، و راحوا يدكون الباب بجذعها . مر الوقت ، و بدأ الرجال يتساقطون من التعب و الإعياء ، بينما الباب لا يزال صامدا في مكانه .

اصطبغت السماء باللون البرتقالي مُؤْذنة ً بحلول الليل ، الذي ما لبث أن أسدل ستائره . كانت قوات الشرطة قد بدأت تحاصر الجبل . علم العمال بقدومهم ، فاستعادوا همتهم . حملوا جذع الشجرة من جديد . لكن هذه المرة راحوا يضربون به أحد جدران القصر ، و الذي بدا لهم سقوطه أيسر من سقوط ذلك الباب اللعين .

بدأ الجدار في التصدع ، بينما كان أهل القصر يغادرونه سرا ًعبر الباب الخلفي . نجح العمال في إحداث فجوة دائرية في الجدار . دخل منها قلة منهم ، ثم فتحوا الباب الأمامي للحشود الغاضبة . تدفقوا كالسيول إلى داخل القصر . علت أصوات تكسر الخزف ، و ارتطام الثريات بالأرض ، و انقلاب الدواليب و قطع الأثاث .

راحت الحشود في الخارج تقذف المشاعل عبر النوافذ التي تهاوت ضلفها . بينما أسرع من بالداخل في مغادرة المكان ، و انضموا إلى رفاقهم خارج القصر . و للحظات .. وقف الجميع في خشوع ٍ و صمت يشاهدون النيران و هي تلتهم القصر .

Monday, August 17, 2009

من أوراقي القديمة : ملك الجليد

This drawing version is made by arwenpandora ©2006-2009 - source : deviantart

ملك الجليد .. ثلاثية القبول و الرفض

افتتاحية

الذات و النفس و الروح و الضمير وما أسميته ملك الجليد كلها معان فلسفية تسبح في فلك الإنسان ، لا نراها ، لكننا قد نشعر بسلطتها و قدرتها على التحكم بنا , و أحيانا ً نحن من يمنحها هذه السلطة . لما أدركت تلك الحقيقة ، أردت تمكين مــلك الجليد من قلبي لعله يساعدني في التغلب على قلقي و هواجسي . لـكن اتضح لي أنـه سـلاح ذو حدين ، قتل قلقـي و حبـي معـا ً ، و أصبح قلبي بـاردا .. متبـلد المشاعـر ..

قبول

هو ذلكَ الملكُ المتوجُ في القلوب
هو صاحبُ الوجهِ المجمدِ بالشحوب
هو ذلكَ المعنى البعيد
كالنفس ِ أو كالذاتِ أو كالروح
هو ذلكَ الصرحُ العتيد
يطغى على ألم ِ الجروح
لجلالهِ خضعَ القلق
و بفضلهِ الجسدُ اتسق
ما عادَ يشكو من ضبابٍ أو غسق
و وجودهُ فينا أكيد
و حكمهُ فينا وطيد
بنفوذهِ كبحَ المشاعرَ بالجليد

صراع

قلبي تلبدَ بالغيوم
و تقطعت سبلُ النجاه
الثلجُ في قلبي يحوم
بعواصفٍ تمحو الحياه
الحبُ يأبى أن يزول
و الثلجُ يأبى أن يراه
تسري رياحهُ في الدماء
و يصيحُ : تبا ً للضياء
فتجيبُ دعوتـَـه السماء
و تلفُ قلبي بالغيوم

رفض

يا صاحبَ التاج ِ المثلج
ابتعد
فأنت لي بئسَ الرفيق
قلبي تـَعب
من طول ِ قارعةِ الطريق
محوتَ دمعي بالمياهِ البارده
و جرحتَ قلبي بالبَـرَد
و قتلتَ حبي بالصقيع
فلتبتعد
يا صاحبَ التاج ِ الرفيع

ديسمبر 2005

رواية : القصر العالي

(This picture is taken by Ewciak & Leto - Poland - source : Flicker)

الحلقة الثالثة : ضباب

(3)

كان قد استسلم لسلطان النوم منذ زمن ٍ ليس بالطويل . لكنه ما لبث أن استيقظ على صوت طفل ٍ يناديه باسمه . نهض من فراشه و هو بالكاد يرى أمامه . كانت الغرفة قد امتلأت بضباب ٍ كثيف . تعثر و هو يتقدم نحو الباب . و ما إن خرج ، حتى وجد نفسه في فناء ٍ صغير ، أرضه مفروشة بالرمال و القمامة .

كان الفناء مزدحما ً بأطفال كثر . لهم شعورٌ شعثاء ، و وجوهٌ سمراء . عليهم قمصانٌ رثه ، تشابهت في ألوانها و تجاعيدها . كان الأطفال يركضون في كل مكان .. البعض يتشاجرون و يتقاذفون الشتائم ، و البعض الآخر يتبولون في أركان الفناء .

استمر الكاتب في شق طريقه وسط ذلك الزحام المجنون . أخذ الضباب ينقشع شيئا ً فشيئا ً ، و الضوضاء يخبو صوتها ، و الصوت الذي يناديه يعلو و يعلو ، حتى رأى الطفل . كان وجهه مألوفا ً . راح يسرع الخطى نحوه ، لكنه عندما وصل لم يجده . التفت يمينا و يسارا لكنه لم يرَ شيئا ً من الضباب الذي بدأت تزداد كثافته من جديد . سد أذنيه بكلتا يديه حتى لا يسمع صخب المكان الذي ازدادت حدته . لم يعد يرى أو يسمع أي شيء . أحس حينئذ ٍ بالضياع . جلس مكانه و انخرط في البكاء . بكى كطفل ٍ صغير تاه عن أمه . و فجأة .. هوى كل شيء في جوف صمت عميق .

بدأ يميز رغم الظلام .. المكتب الصغير ، و حقائبه المطروحة أرضا ، و الحوائط حديثة الطلاء . وجد نفسه جالسا ً في الفراش ، و آثار البكاء لا تزال على وجنتيه .

رواية : القصر العالي

(This picture is taken by Ewciak & Leto - Poland - source : Flicker)

الحلقة الثانية : الكابتن

(2)

قبل ثلاثة شهور ..

لم تمنع تحذيرات الأهالي المستمرة هؤلاء الصبية من لعب الكرة في هذا المكان . فالساحة الممتدة أمام الأسوار الحديدية للقصر تملك من المميزات ما يجعل أي راغب ٍ في لعب الكرة أن يتجاهل أي تحذير . فهي ساحة فسيحة مستوية بخلاف سائر شوارع الجبل الضيقة شديدة الانحدار . كما أنها المكان الوحيد الذي يخلو من مياه الصرف ، و التي صارت علامة مسجلة لجميع شوارع المنطقة .

كان الأولاد تقريبا من فئة عمرية واحدة . تتراوح أعمارهم بين السابعة و العاشرة . يتزعمهم صبي في الثانية عشرة ينادونه جميعهم بالكابتن . كان الكابتن فارع الطول ، نحيف الجسم ، أسمر . دائما ما يرتدي قميصا ً رياضيا ً أحمر اللون يحمل اسم و رقم " أبو تريكة " . الجميع يرضخ لأمره ، و يرجعون إليه في سائر أمورهم .

يقوم الكابتن بتقسيم الأولاد إلى فرقتين . يستحوذ على ذوي المهارات في فرقته . الجميع يلاحظ ذلك .. لكن ليس بينهم من يستطيع أن يعارض . يتبقى طفل صغير في السادسة زيادة ً عن العدد ، فيضمه الكابتن إلى الفرقة المنافسة . يطفح الكيل ، و يرفض أعضاء الفرقة المنافسة ضم الطفل إليهم . يرفض الكابتن أيضا أن يضمه لفرقته . تتفاقم المشكلة ، فيحتكمون إلى القرعة بواسطة قطعة نقود معدنية . يتلاعب الكابتن في القرعة ، و يضم الطفل إلى الفرقة المنافسة ، و يضطر الجميع لقبول النتيجة .

تبدأ المباراة ، و كالعادة يتفوق فريق الكابتن بوضوح على نظيره . تحاول الفرقة المنافسة التسديد لكن دون جدوى . يجرب الطفل الصغير حظه ، فيركل الكرة ركلة سيئة تطيح بها خلف أسوار القصر . تتجمد الدماء في عروق الجميع ، لكنهم يوارون فزعهم خلف صرامة حكمهم على الصغير بأن يصحح غلطته و يأتي بالكرة . يرفض الطفل الخائف دخول القصر .. و مع استمرار ضغطهم عليه ، يبدأ في البكاء .

يتدخل الكابتن و يقرر الذهاب بنفسه للإتيان بالكرة ، لكن بشرط .. أن يتم استبعاد الطفل الصغير من كلتا الفرقتين بعد عودته .. و أن يكتفي بالمشاهدة فقط . يتنفس الجميع الصعداء ، بينما يتسلق الكابتن الأسوار الحديدية متصنعا ً الجرأة . يراقبه الجميع و قد ازدادت مكانته في نفوسهم .

يختفي الكابتن عن الأنظار خلال بحثه عن الكرة . يطول غيابه . يقترب الأولاد القلقون من السور الحديدي الصدئ لإلقاء نظرة على الغائب . تتفجر في آذانهم صرخة ً رهيبة ، ميزوا صوت الكابتن فيها . و فورا ً يلوذ الجميع بالفرار و الرعب يتملكهم .

Saturday, August 15, 2009

رضا



يطلب منها الطبيب النائب أن تخلع مشد الصدر لدقائق معدودة . تنظر إليه في أسىً .. فيهز رأسه مواسيا ً . تطيعه و هي مغلوب على أمرها . يتدلى نهداها في خجل . ترحل نظراتها بين عيوننا .. في محاولة يائسة لتتبين إن كنا ننظر إليها نظرة أطباءٍ يريدون العلم .. أم نظرة شباب ٍ نهم غلبت عليهم فورة الشباب . تطأطئ رأسها معلنة ً فشلها في الوصول إلى إجابة .

هي امرأة ثلاثينية . ترتدي جلبابا ً يغلب عليه الطابع الريفي بألوانه الزاهية . ترتدي من تحته بنطالا ً حتى يسترها حين تكشف لنا عن بطنها المنتفخ . بشرتها السمراء تشوبها بعض البقع الباهتة الناتجة عن سوء التغذية . لها أنفٌ أفطس ، و شفاهٌ غليظة ، و عينان واسعتان حددتهما بالكحل .

تسري القشعريرة في بدنها عندما يبدأ أحد زملائنا في الفحص بطريقة الطرق على الأصابع . يبدأ كما تعلمنا من أعلى قفصها الصدري إلى أسفله محاولا ً الحصول على حدود كبدها المتضخم . يبتسم زميلنا ابتسامة انتصار عندما يتحول الصوت الرنان عند الطرق إلى صوتٍ مكتوم ، معلنا ً اصطدامه بالحافة العليا للكبد . يهز الطبيب النائب رأسه مشجعا ً زميلنا .. و بطريقة آلية اعتدناها .. يتنحى زميلنا جانبا ً متيحا ً الفرصة للبقية .

ألحظ عينيها مغرورقتين بالدموع و هي تعاود محاولاتها اليائسة لاستكشاف بواطن نفوسنا . يغمزني زميلي بمرفقه .. فأنتبه للطبيب النائب و هو يكرر سؤاله : " هل تبقى بينكم من لم يفحص الست رضا ؟ " . تعاطفي معها يمنعني من التقدم لفحصها . نتركها و ننتقل مع الطبيب النائب إلى السرير التالي .

ترافقها عيناي وهي تخترق العنبر ، متجهة ً نحو غرفة السكرتارية ، لتقبض بضعة جنيهات ، و تسأل عن ميعاد الدرس القادم ..

Friday, August 14, 2009

رواية : القصر العالي

(This picture is taken by Ewciak & Leto - Poland - source : Flicker)

الحلقة الأولى : وصول

صمت ٌمرعبٌ يطبق على المكان . الشمسُ تتسيد صفحة السماء الخالية من السحب ، و تقذف لهبا ً تتشقق له جدرانُ القصر ، و تذبلُ من سطوته النباتاتُ المحيطة ، كأنها عبيد ٌ يركعون لإلهٍ أسطوري . الرياحُ الملتهبة تلفح ما يصادفها ، و تتلاطم على اثرها ضُلف النوافذ و الشرفات . الترابُ يغطي كل الأشياء . و لا أثر لحياة ، سوى مجموعاتٍ من الذباب تحوم هنا و هناك ..

(1)

يائسا ً لضياع ثروته .. مغموما ً لفقدان والدته .. خائفا ً من خبايا المستقبل ، مضى الكاتب مخترقا ً الحديقة الميتة . نعق غراب في السماء مبددا ً صمت المكان . وضع الكاتب حقائبه على الدرج الأمامي للقصر . وقف لبرهة يتأمل الباب الذي بدا شامخا ً كالطود العظيم . أدار المفتاح في القفل ، و فتح الباب ، فاندفع نحوه تيارٌ هوائي ساخن مشبعٌ بالغبار .

وجد نفسه في بهو ٍ مظلم .. خفف من ظلمته نهرٌ من أشعة الشمس ، ينساب من الخارج عبر فتحة ٍ دائرية ٍ في الجدار . اتجه نحوَ ما رآه من نوافذ ، و فتحها واحدة ً تلو الأخرى .. فتجلت له ملامح البهو شديد الاتساع .

في الواجهة دَرجٌ يؤدي إلى الطابق العلوي ، تحطمت معظم درجاته . و على يمينه (بار) امتلأت منضدته بالشقوق ، و بدت الأرفف من خلفه خاوية ً متهالكة . على الجانب الآخر باب ناصع البياض ، بدا شاذا ً وسط هذا المكان البشع . اتجه الكاتب نحوه بثقة , و فتحه .. فوجد غرفة ً واسعة نظيفة تحوي سريرا ً صغيرا ً و مكتبا ً .. و تعبق برائحة ٍ نفاذة لطلاء ٍ حديث . ارتسمت على وجهه ابتسامة تنم عن الرضا ، و بدأ في ترتيب أغراضه ..

Wednesday, August 12, 2009

قصور من الرمال


أخيرا انتهت الدراسة ، و بدأت عطلة نهاية العام . كنت أنتظر هذه العطلة بشغف ، خاصة ً و أن أبي وعدنا هذا الصيف برحلة إلى أحد الشواطئ .
أمضيت طيلة النهار أسترجع ذكريات عطلاتنا الصيفية الماضية . استرجعت النشوة التي كانت تشملني عندما أرى خيط البحر ممتدا ً خلف البنايات ، مع اقتراب دخولنا المدينة بالأتوبيس السياحي .
مرت أمام عيني صور القصور التي كنت أبنيها من الرمال (هوايتي الشاطئية المفضلة) .. و التي كانت دائما ً ما تحظى باهتمام المارة على الشاطئ ، خاصة ً الأطفال (الذين تظل عيونهم تترقبنا حتى نغادر الشاطئ ، فيسوون بالقصور الأرض) . كنت أبكي حينها ، فيعدني أبي بتأجير دراجة ، نظل نلهو بها طوال الليل. هناك .. تعلمت ركوب الدراجة لأول مرة .
مساء هذا اليوم السعيد ، استلقيت على سريري ، وأطلقت لأفكاري العنان ، و بدأت الأفكار تتعاقب ، وتتلاحق ، و تتنافس .


في الصباح .. استيقظت على الصياح و الهتافات المنددة والمؤيدة . خرجت لأرى ما الأمر ، فوجدت اجتماعا ً مهيبا ً مكونا ً من أعضاء أسرتي ، وبرئاسة والدي .
الجميع يجلس على المائدة ، و بدلا ً من طعام الإفطار ، وجدت الأوراق و الملفات و الأقلام . لقد تقدم إخوتي بطلب للذهاب لأحد المصايف ، مرفقين طلبهم بدراسة شاملة للمدينة المرادة ، والأماكن الترفيهية الموجودة بها .
ما هذا بحق السماء !
لم أتخيل أن يتناول الجميع موضوع المصيف بهذه السرعة و هذه الحماسة . فبالأمس و بعدما فكرت في المدن المتاحة لقضاء العطلة ، سخرت من نفسي ، وظننت أني تحمست للموضوع زيادة ً عن اللازم . و الآن ، وقد تقدم الجميع بأوراقه (باستثنائي) ، لم أجد بُدا ً من الجلوس كمستمع .


جلست بجوار أختاي التوأم المتماثل ندى و سلمى . كانت أمي دائما ً تذكر أن ندى وُلدت أولا ً .. مما جعلها تتزعم هذا الثنائي الغريب . و من حسن حظي أني كنت أحظى بالرضى لديهما . فبالرغم من أني أكبرهما بعامين ، إلا أنهما تمثلان مركزا ً للقوى بالمنزل ؛ فرأيهما واحد ، و أفكارهما واحدة ، و اتجاهاتهما واحدة . و الأهم من كل ذلك انهما تضمان مصروفيهما ليصبح واحدا ً . لذلك فالحصول على رضاهما يعني الحصول على قروض طويلة الأجل بدون فوائد أو ضمانات .


عاد الصياح من جديد ، وعادت الهتافات عندما هم أبي لمعاودة الحديث ، وعندما بدأ ، ساد الصمت الجميع .
يملك أبي هيبة كهيبة القضاة .. لم ألحظها في صغري .. ربما لأنه لم يكن يملك حينها شاربه الكبير أو نظارته الطبية . يبيع أبي الملابس في متجره الخاص ، و بالرغم من صغر دخله ، لم يتأخر يوما ً عن تلبية مطالبنا .
" أما الآن فسأملي عليكم ما جاء في ملف ندى و سلمى " .. و بدأ الوالد العزيز يسرد ما كتبته أختاي عن مطروح ، و جمال مطروح ، و معالم مطروح ، و شواطئ مطروح . و بينما كان أبي يسترسل في قراءته ، كانت أمارات الفرحة و الحماسة تزداد على وجهيهما ، و كأن أبي قد وافق على طلبهما .
ملت على أذن ندى التي تجلس بجواري و قلت لها : " ما كل هذا يا ندى ؟ كيف عرفتم كل هذه المعلومات عن مطروح بالرغم من أننا لم نزرها من قبل ؟ "
ردت ندى : " إنها عملية بسيطة .. فبمجرد الدخول على شبكة الإنترنت ، ستجد أطنانا ً من المعلومات عن مطروح "
قلت لها : آه .. الآن فهمت .
قلتها و أنا أعض أصابع الندم على عدم تفكيري في الأمر كما فكر الجميع فيه . لكن من حسن الحظ أن أختاي اختارتا المدينة التي كنت سأختارها . و أكاد اكون متأكدا ً أنها ستنال موافقة العائلة ، لأن أختاي كما قلت تمثلان مركزا ً للقوى في المنزل .
انتهى أبي من قراءة الملف ، و ارتفع هتاف أختاي : " تعيش مطروح .. تعيش مطروح " . طرق أبي عدة طرقات على المائدة طالبا ً الهدوء (تماما ً كقاض ٍ في قاعة المحكمة) .


حتى تلك الحظة ، لم أكن أصدق ما يحدث ، ففي العطلات الصيفية الماضية .. عادة ً ما كان أبي و أمي يتفقان على أحد المصايف ، ونرضخ نحن لرأيهما دون أي مجادلة أو نقاش . لكن يبدو أن رياح الديموقراطية التي تهب في العالم من حولنا قد مست منزلنا ، فقرر أبي أن يكون اختيار المصيف هذا العام عن طريق التصويت .
و بينما كنت أفكر في صواب القرار .. و تملؤني الأمنيات أن يكون معبرا ً عن رغباتنا .. عاود أبي الحديث من جديد ، مُصدرا ً البيان الختامي للاجتماع ( بعدما لمح بفطنته أني لم أعد مشروعا ً لهذه الجلسة ) :
أبنائي الأعزاء .. رأيت أنا و أمكم العزيزة أن نترك لكم حرية التعبير عن آرائكم و آمالكم تجاه المصيف هذا العام .. خاصة ً بعدما لاحظنا اهتمامكم المتزايد بالفكرة خلال فترة الامتحانات ، إلا أن القرار في النهاية يعود إلينا ، و قد قررنا الآتي :
" إلغاء رحلة المصيف هذا العام نظرا ً للأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد "

Tuesday, August 11, 2009

أرابيسك

(هذه القصيدة ، هي التي كنت قد تحدثت عنها في التدوينة السابقة )

(1)
البهلوان

أنا كنت أصلا ً بهلوان
بأرقص و باطلع ع الحيطان
بأضحك و ضحكي بيملا كل الكون فرح
لحد ما الغول الكبير .. و الغيلان
نهبوا البلد .. باعوا البلد
و لبسوا الشعب الطرح
من يومها و أنا ضحكي اختفى
و خدت ميت مليون قفى
و شعري شاب قبل الأوان
و بلادي صارت سيرك ..
من غير بهلوان

(2)
رسام

قالوا عليه رسام
كان يختفي ..
يطلع على سطوح البيوت
و يرسم الشمس الجميلة
قبل ما تروح تختفي
كانت ودانه تسمع اللحن الجميل
و تلقطه من ألف ميل
و ترسمه عيونه ف خياله
***
و ف يوم و هو معدي .. جنب قصر الملك
سمعله لحن غريب .. كئيب
رسمت عيونه اللحن زي الكابوس
شاف فيه حمام .. و شاف ظلام
شاف الحمام بينقتل
و الظلام بيزيد ظلام
شاف فيه وحوش ..
و غيلان بتاكل ف البشر و الجاموس
فاق الولد م الحلم زي المريض
مسك الولد سيخ حديد ..
و خرم ودانه
مسك الولد سكين ..
و بحرفها .. قلع عيونه
فاق الولد من جنونه
لقى نفسه مش سامع .. غير اللحن الكئيب
لقى نفسه مش شايف .. غير الظلام
و الظلام بيزيد ظلام

(3)
باليرينا

لما بترقص
بتحاول تنسى الدنيا من حواليها
بتعيش ف خيالها
بتعيش اللحظه بكل ما فيها
بتطير و تحلق فوق ف السما
و ف لحظه بترجع تاني للأرض
و بترجع لحياتها المره
***
كانت طفلة بريئة
عاشت طفولتها بالطول و العرض
كبرت .. و بقت بنت رقيقة
نقطتها السودا
إنها كانت بنت الغول !
كرهت حالها
و اتعلمت ازاي تنساه بالفن
و مع الوقت
شعورها عدا حدود الكره
و بقت لما بترقص
بتسيب جزء منها .. يروح للفن
اتخلت عن ضحكتها الحلوه
اتخلت عن فرحتها
و اتخلت حتى عن الحزن
نسيت معنى الخوف و الجبن
نسيت معنى الحيرة
و معنى الغيرة
و اتبقى لها .. رقصة أخيرة
***
احساسها المرة دي .. كان بزيادة
و قفت على طراطيف صوابعها
زي العادة
بدأت تدور و تدور
و تدوب ف النور
تميل يمين .. وتميل شمال
بدأت تتوحد .. مع لحن البيانو
تاخد من كيانها
و تحط ف كيانه
سابت دنيتها
عاشت ف الخيال
دابت ف اللحن .. دابت ف الجمال
و اتبخرت ..


(4)
الغول

الغول عينيه حمرا
و شعره طويل
الغول سنانه كبيرة زي السيوف
الغول بينفخ نار .. و خوف
بيبخ سمه ف الوشوش
يسحب فريسته للكهوف
و يقوم راميها للوحوش
***
الغول عمره ما كان كده
الغول بيقعد ف المكاتب
الغول وزير
الغول ده نائب
و يمكن أكبر من كده
الغول بشر
قلبه حجر
لكن بينبض بالحياه
الغول بياكل ف النفوس
لكن بظلمه و نهبه .. وبالنفوذ
و ساعات كتيره بالفلوس
***
يمكن تقوللي :
لما انت عارف كل ده
انت فين من ده و ده
أرد أقول :
كتروا الغيلان
و ما عادش في ذرة أمان
أنا كنت أصلا ً بهلوان
الغول قتلني من زمان

(5)
أرابيسك

حارتنا فيها شباك قديم
مصنوعة ضرفه من الأرابيسك
و ف الأرابيسك
حته بتضحك زي الأراجوز
و حته بتحلم زي الرسام
و حته بترقص .. وتأثر فينا
زي الباليرينا
***
و ف يوم هبت ريح ع الحارة
ريح سعرانه
زي الغول ..
جريوا الناس .. هنا و هناك
وقع الشباك ..
و اتبقى الغول .. و الأرابيسك


Monday, August 10, 2009

كلمة واحدة .. و معان ٍعديدة


عرفت كلمة أرابيسك لأول مرة سنة 1992 من خلال المسلسل التليفزيوني الشهير حينها ، و الذي حمل نفس الاسم .


وعرفتها مرة أخرى عندما قرر أبي و أمي توسيع مدخل البلكونة في شقتنا بحي الحسين العريق ، و استبدال الباب بباب جديد .. عندها اقترحت وضع باب من الأرابيسك كنت قد رأيت صورته في احدى المجلات . كنت حينها في الثانية عشر من عمري .. و كم كانت فرحتي عندما وافق أبي على اقتراحي ، و ذهبنا سوياً لشراء الأرابيسك من منطقة " الرويعي " بحي الموسكي .


بعدها بسنوات عديدة .. و خلال بحثي بين خيوط الشبكة العنكبوتية ، عرفت أن أرابيسك هي كلمة فرنسية " Arabesque " و معناها : الفن العربي . و كانت الحضارة الإسلامية قد تميزت بهذا الفن في عصرها الذهبي ، و عن طريق الأندلس ، انتشر في أوروبا و لقي رواجاً كبيراً خلال القرنين الخامس عشر و السادس عشر .


أما مؤخراً ، فبدأت أرى هذه الكلمة بمنظور مختلف ، و نتج عن ذلك أولى قصائدي العامية ، و عنوانها أيضاً .. أرابيسك .


و كلما كبرت .. كبرت معي هذه الكلمة ، و تعددت معانيها .. فأنا الآن أجد حياتي تماماً كقطعة الأرابيسك ، تتداخل فيها أشعاري و قصصي و أفكاري لتكون صورة واحدة ... صورتي أنا .