My poems , short stories and thoughts

Sunday, September 6, 2009

الجمجمة


كان يتحتم على كل واحدٍ منا أن يحصل على هيكلٍ عظمي في السنة الأولى في كلية الطب . و من حسن حظي أني حصلت عليه دون مقابل من ابنة عمتي و التي حصلت عليه من ابنة خالتي . أما إذا لم يكن الطب متوارثا في عائلتك , فهناك طريقتان لشراء هيكل عظمي ؛ الأولى من عامل المشرحة في الكلية , و الثانية من الحانوتي في المقابر . معظم زملائي حصلوا على هياكلهم من عامل المشرحة .. ببساطة لأنها الطريقة الشرعية الوحيدة . السر الذي لا يعلمه أحد ، أن الهيكل خاصتي .. حصل عليه أقربائي من المقابر !

*****

الهياكل عامة ً ثابتة السعر .. الجمجمة ثمنها 100 جنيها ، و باقي العظام ثمنها 150 جنيه . و السبب في ذلك أن الجسم تتكرر فيه معظم العظام يمينا و يسارا عدا الجمجمة . فأنت عندما تشتري الهيكل تحصل على العظام اليمنى أو اليسرى فقط , فليس من داع ٍ لتحصل على كلتيهما . و تعتمد تجارة الهياكل العظمية في الأساس على مَنْ لا أهل لهم ؛ سواءً كان طفلا من أطفال الشوارع , أو رجلا محكوماً عليه باللإعدام تخلى عنه أقاربه ، أو امرأة ً عجوز تقتات من الشحاذة ماتت مكانها ، أو مجهول صدمته سيارة و لم يتعرف عليه أحد .. إلخ
كل هؤلاء يواجهون نفس المصير ؛ تأتي أجسادهم إلى المشرحة لتحل محل الأجساد القديمة التي اهترأت من كثرة الدارسين و الممتحنين .. و (الفورمالين) المنقوعة فيه !
أما الأجساد القديمة , فيقوم عمال المشرحة (بتشفيتها) من اللحم المتبقي .. ثم يقومون بدفن اللحم أو حرقه . أما العظام فيتم أولاً تسخينها في الماء ، لكن ليس لدرجة الغليان حتى لا تصيبها الهشاشة , ثم يتم غسلها جيدا بالماء , و تجفف تحت أشعة الشمس , و الهيكل الجيد هو الذي يتم دهانه بالورنيش حتى لا تتسرب منه رائحة الموت الكريهة .

*****

في المشرحة .. تعرفت على أعز أصدقائي .. هيثم . كان هيثم (ابن ناس) و الوصف الأدق أنه كان من (ولاد الذوات) . كل يوم يتجمع مع (شلته) من طلبة الـ (آي جي) في أحد أركان المشرحة يتضاحكون و يتحدثون بالإنجليزية المرصعة بالعربية . كانوا كمخلوقات أتت من كوكبٍ آخر ، و كان لابد من حلقة اتصال تربطهم بكوكبنا ، و كنت أنا هذه الحلقة .

*****

في السنة الأولى .. و خصوصا داخل المشرحة ، هناك أمرٌ واحد يشغل الجميع و هو كيف تقنع الآخرين بقوة قلبك ، و عدم خوفك من جو الجثث و العظام المرعب , و رائحة (الفورمالين) المقززة . و كل واحد له طريقته في إثبات ذلك .
هناك زميلة لنا كانت لا يحلو لها تناول إفطارها إلا بجانب الجثة . كل يوم ، و بعد انتهاء الدرس ، تـُخرج (الساندوتش) من حقيبتها ، و تجلس إلى جوار الجسد الممدد على الطاولة ، و تنهمك في الأكل .
أما أنا فكنت أستعرض جرأتي بطريقة مختلفة . كنت أمسك الجثة بكفي مباشرة ً بدون قفاز . كان أمرا مقززا في البداية ، خاصة و أن الجثة كانت (بـِتنِزْ) فورمالين كلما أمسكتها . و الفورمالين لوحده كان حكاية . له رائحة نفاذة للغاية تنشع في النافوخ و تدمع لها العيون ، و قد تجلب لك الرغبة في التقيؤ . لكن في نفس الوقت .. فهو يحمي الجثث من التعفن ، كما أنه يحول لونها إلى البني الغامق ، و يجعلها تبدو كدمية من الصلصال لا تثير الرعب ، بل قد تثير الشفقة أحيانا !
أما هيثم فقد كان يبذل مجهودا فوق العادة لكي يثبت لنا جرأته ، و أنه ليس شابا (فرفور) خفيف القلب . و إذا أردنا تسمية طريقته ، فالاسم الأنسب لها هو " طريقة الجمجمة " .

*****

بالرغم من أننا لا ندرس الجمجمة إلا في السنة الثانية , إلا أن هيثم كان يحضرها معه في حقيبة الظهر كل يوم . و كان يستخدمها استخداماتٍ كثيرة ، فتارة ً يتبادل هو و أعضاء (شلته) الإمضاءات و الإهداءات على قبب الجماجم ، و تارة ً أخرى يقوم برسم جماجم صغيرة أو قلوب عليها . و في يوم .. دخل علينا و قد كتب على جبهة الجمجمة نكتة (أبيحة) بالإنجليزية !
و وصل الأمر معه لحد الهوس ، ففي منزله .. كان يستخدم الجمجمة كـ (أباجورة) في المساء . يطفئ الأنوار , و يشعل شمعة صغيرة داخل الجمجمة ، فتخرج الإضاءة من فتحات العينين و الأنف و الفم . و في وقت المذاكرة .. كان يستخدمها كتمثال يزين مكتبه .
و في واحدة من زياراتي المتكررة لشقتهم بمصر الجديدة للمذاكرة ، نبهته إلى أنه لا داعي على الأقل لتلك الاستخدامات المنزلية للجمجمة ، فلا أحد يراها غيري ، لكنه لم يعر كلامي أي اهتمام .. يومها ، بدأت أشعر بالقلق عليه من تصرفاته .

*****

اعتاد كل منا أن يطلق اسما ًعلى هيكله . سميت هيكلي (لطفي) رغم أنه كان لأنثىً عجوز ، بينما سمّى هيثم هيكله (شاكيرا) رغم أنه كان لفحلٍ ضخم !
عموما .. كانت أحاديثنا تتضمن تلك الأسماء الطريفة : لطفي و شاكيرا و بندق (هيكل زميلتنا بتاعة الساندوتش) بدلا من لفظ الهيكل أو الجمجمة الكئيب .
و في أحد الأيام .. كنت في غرفة هيثم عندما لاحظت شاكيرا على مكتبه و قد أضاف اسمها على الجبهة تحت النكتة . يومها كنا وحدنا في الشقة ، و كان والداه خارج المدينة . و في وقت متأخر من الليل ، أيقظت هيثم الذي نام على مكتبه و هو يذاكر :

ــ هيثم .. هيثم .. اصحى .. النور باين عليه انقطع !
ــ إزاي بس دي عمرها ما حصلت .
ــ و آديها حصلت ياخويا .. هنعمل ايه دلوقتي ؟
ــ هنكمل نوم .
ــ بس أنا ما بعرفش أنام و هي الدنيا ضلمة كحل كده .
ــ طب تعالى معايا المطبخ نجيب كبريت نولع بيه الشمعة اللي جوه شاكيرا .

ذهبنا إلى المطبخ سويا ، و تلمسنا طريقنا على أضواء الموبايلات . لكن و في طريق العودة .. تهنا عن بعضنا . ناديت على هيثم ، لكنه أجابني بصرخة مروعة .. و عند مدخل الغرفة كان المشهد كالآتي : هيثم ممدد على الأرض فاقدا الوعي .. بينما تتراقص شاكيرا المشتعلة في سماء الغرفة جيئة و ذهابا .

*****

في اليوم التالي .. في الكلية ، جاء هيثم بدون شاكيرا لأول مرة . تجنب كلانا الحديث فيما حدث ليلة البارحة . و من يومها لم يحضرها معه مرة أخرى إلا في السنة الثانية . كانت هذه المرة قد نظفت من كل الكتابات و الرسومات . و اليوم .. و بعد سنوات من هذه الحادثة .. أشعر بالسعادة كلما تذكرت هيثم ، و تذكرت (مقلبي) الذي جعل منه طبيبا ناجحا .

1 التعليقات:

Unknown said...

القصة دي مشوقة جدا وشدتني من أول كلمة , و كنت بقرهها بسرعة علشان أعرف هتكون نهايتها إيه
وفي الاخر انبسط منها جدا .
مبروك
ربنا يوفقك و